الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } قوله {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة}لما ضرب مثل المؤمن ضرب مثل الكافر. قال مقاتل: نزلت في شيبة بن ربيعة بن عبدشمس، كان يترهب متلمسا للدين، فلما خرج صلى الله عليه وسلم كفر. أبو سهل: في أهل الكتاب. الضحاك: في أعمال الخير للكافر؛ كصلة الرحم ونفع الجيران. والسراب: ما يرى نصف النهار في اشتداد الحر، كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض. والآل الذي يكون ضحا كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء. وسمي السراب سرابا لأنه يسرب أي يجري كالماء. ويقال: سرب الفحل أي مضى وسار في الأرض. ويسمي الآل أيضا، ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به العطشان. قال الشاعر: وقال آخر: وقال امرؤ القيس: والقيعة جمع القاع؛ مثل جيرة وجار؛ قاله الهروي وقال أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد؛ حكاه النحاس. والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب. وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، وجمعه قيعان. قال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض؛ والجمع أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها؛ والقيعة مثل القاع، وهو أيضا من الواو. وبعضهم يقول: هو جمع. {يحسبه الظمآن}أي العطشان. {ماء}أي يحسب السراب ماء. {حتى إذا جاءه لم يجده شيئا}مما قدره ووجد أرضا لا ماء فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار، يعولون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر؛ أي لم يجدوا شيئا كما لم يجد صاحب السراب إلا أرضا لا ماء فيها؛ فهو يهلك أو بموت. {ووجد الله عنده}أي وجد الله بالمرصاد. {فوفاه حسابه}أي جزاء عمله. قال امرؤ القيس: وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله. وقيل: وجد أمر الله عند حشره؛ والمعنى متقارب. وقرئ {بقيعات}. المهدوي: ويجوز أن تكون الألف مشبعة من فتحه العين. ويجوز أن تكون مثل رجل عزه وعزهاة، للذي لا يقرب النساء. ويجوز أن يكون جمع قيعة، ويكون على هذا بالتاء في الوصل والوقف. وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة {الظمآن}بغير همز، والمشهور عنهما الهمز؛ يقال: ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن، وإن خففت الهمزة قلت الظمان. وقوله {والذين كفروا}ابتداء {أعمالهم}ابتداء ثان. والكاف من {كسراب}الخبر، والجملة خبر عن {الذين}. ويجوز أن تكون {أعمالهم}بدلا من {الذين كفروا}؛ أي وأعمال الذين كفروا كسراب، فحذف المضاف. {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } قوله {أو كظلمات في بحر لجي}ضرب تعالى مثلا آخر للكفار أي أعمالهم كسراب بقيعة أو كظلمات. قال الزجاج: إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل بالظلمات فـ {أو}للإباحة حسبما تقدم من القول في والتجت الأصوات أي اختلطت وعظمت. {يغشاه موج}أي يعلو ذلك البحر اللجي موج. {من فوقه موج}أي من فوق الموج موج، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب؛ فيجتمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب. وقيل: المعنى يغشاه موج من بعده موج؛ فيكون المعنى: الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض، وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب ومن فوق هذا الموج سحاب. وهو أعظم للخوف من وجهين: أحدهما: أنه قد غطى النجوم التي يهتدي بها. الثاني: الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه. {ظلمات بعضها فوق بعض}قرأ ابن محيصن والبزي عن ابن كثير {سحاب ظلمات}بالإضافة والخفض. قنبل {سحاب}منونا {ظلمات}بالجر والتنوين. الباقون بالرفع والتنوين. قال المهدوي: من قرأ {من فوقه سحاب ظلمات}بالإضافة فلأن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها؛ كما يقال: سحاب رحمة إذا ارتفع في وقت المطر. ومن قرأ {سحاب ظلمات}جر {ظلمات}على التأكيد لـ{ظلمات}الأولى أو البدل منها. و{سحاب}ابتداء و{من فوقه}الخبر. ومن قرأ {سحاب ظلمات}فظلمات خبر ابتداء محذوف التقدير: هي ظلمات أو هذه ظلمات. قال ابن الأنباري}من فوقه موج}غير تام؛ لأن قول {من فوقه سحاب}صلة للموج، والوقف على قول {من فوقه سحاب{حسن ثم تبتدئ {ظلمات بعضها فوق بعض}على معنى هي ظلمات بعضها فوق بعض. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا {ظلمات}على معنى أو كظلمات ظلمات بعضها فوق بعض فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على السحاب. ثم قيل: المراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة البحر؛ فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا. وقيل: المراد بالظلمات الشدائد؛ أي شدائد بعضها فوق بعض. وقيل: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجي قلبه، وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرين والختم والطبع على قلبه. روي معناه عن ابن عباس وغيره؛ أي لا يبصر بقلبه نور الإيمان، كما أن صاحب الظلمات في البحر إذا أخرج يده لم يكد يراها. وقال أبيّ ابن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات في النار وبئس المصير. قوله {إذا أخرج يده}يعني الناظر. {لم يكد يراها}أي من شدة الظلمات. قال الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد؛ وهو معنى قول الحسن. ومعنى {لم يكد}لم يطمع أن يراها. وقال الفراء: كاد صلة، أي لم يرها؛ كما تقول: ما كدت أعرفه. وقال المبرد: يعني لم يرها إلا من بعد الجهد؛ كما تقول: ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه بعد يأس وشدة. وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم ير كما يقال: كاد العروس يكون أميرا وكاد النعام يطير وكاد المنتعل يكون راكبا. النحاس: وأصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يقارب رؤيتها فلم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة. {ومن لم يجعل الله له نورا}يهتدي به حين أظلمت عليه الأمور. وقال ابن عباس: أي من لم يجعل الله له دينا فما له من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة لم يهتد إلى الجنة؛ كقوله قلت: وكلاهما مات كافرا، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما. وقد قيل: نزلت في عبدالله بن جحش، وكان أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة ثم تنصر بعد إسلامه. وذكر الثعلبي: {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون، ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير } قوله {ألم تر أن الله}لما ذكر وضوح الآيات زاد في الحجة والبينات، وبين أن مصنوعاته تدل بتغييرها على أن لها صانعا قادرا على الكمال؛ فله بعثة الرسل، وقد بعثهم وأيدهم بالمعجزات، وأخبروا بالجنة والنار. والخطاب في {ألم تر}للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: ألم تعلم؛ والمراد الكل. {أن الله يسبح له من في السماوات}من الملائكة. {والأرض}من الجن والإنس. {والطير صافات}قال مجاهد وغيره: الصلاة للإنسان والتسبيح لما سواه من الخلق. وقال سفيان: للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود. وقيل: إن ضربها بأجنحتها صلاة، وإن أصواتها تسبيح؛ حكاه النقاش. وقيل: التسبيح ها هنا ما يرى في المخلوق من أثر الصنعة. ومعنى {صافات}مصطفات الأجنحة في الهواء. وقرأ الجماعة {والطير}بالرفع عطفا على {من}. وقال الزجاج: ويجوز {والطير}بمعنى مع الطير. قال النحاس: وسمعته يخبر - قمتُ وزيدا - بمعنى مع زيد. قال: وهو أجود من الرفع. قال: فإن قلت قمت أنا وزيد، كان الأجود الرفع، ويجوز النصب. {كل قد علم صلاته وتسبيحه}يجوز أن يكون المعنى: كل قد علم الله صلاته وتسبيحه؛ أي علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح. ولهذاقال {والله عليم بما يفعلون}أي لا يخفي عليه طاعتهم ولا تسبيحهم. ومن هذه الجهة يجوز نصب {كل}عند البصريين والكوفيين بإضمار فعل يفسره ما بعده. وقد قيل: المعنى قد علم كل مصل ومسبح صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه. وقرأ بعض الناس {كل قد علم صلاته وتسبيحه}غير مسمى الفاعل. وذكر بعض النحويين أن بعضهم قرأ {كل قد عُلم صلاته وتسبيحه}؛ فيجوز أن يكون تقديره: كل قد علمه الله صلاته وتسبيحه. ويجوز أن يكون المعنى: كل قد علم غيره صلاته وتسبيحه أي صلاة نفسه؛ فيكون التعليم الذي هو الإفهام والمراد الخصوص؛ لأن من الناس من لم يعلم. ويجوز أن يكون المعنى كل قد استدل منه المستدل، فعبر عن الاستدلال بالتعليم قاله المهدوي. والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر تأكيدا؛ كقول {يعلم السر والنجوى}. والصلاة قد تسمى تسبيحا؛ قاله القشيري. { ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } قوله {ألم تر أن الله يزجي سحابا}ذكر من حججه شيئا آخر؛ أي ألم تر بعيني قلبك. {يزجي سحابا}أي يسوق إلى حيث يشاء. والريح تزجي السحاب، والبقرة تزجي ولدها أي تسوقه. ومنه زجا الخراج يزجو زجاء - ممدودا - إذا تيسرت جبايته. وقال النابغة: وقال أيضا: {ثم يؤلف بينه}أي يجمعه عند انتشائه؛ ليقوى ويتصل ويكثف. والأصل في التأليف الهمز، تقول: تألف. وقرئ {يؤلف}بالواو تخفيفا. والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع؛ ولهذاقال فأوقع {بين}على الدخول، وهو واحد لاشتماله على مواضع. وكما تقول: ما زلت أدور بين الكوفة لأن الكوفة أماكن كثيرة؛ قال الزجاج وغيره. وزعم الأصمعي أن هذا لا يجوز وكان يروى: ... بين الدخول وحومل {ثم يجعله ركاما}أي مجتمعا، يركب بعضه بعضا؛ كقوله الثاني: أنه المطر؛ قاله الجمهور. ومنه قول الشاعر: وقال امرؤ القيس: يقال: ودقت السحابة فهي وادقة. وودق المطر يدق ودقا؛ أي قطر. وودقت إليه دنوت منه. وفي المثل: ودق العير إلى الماء؛ أي دنا منه. يضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه. والموضع مودق. وودقت به ودقا استأنست به. ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل: ودقت تدق ودقا، وأودقت واستودقت. وأتان ودوق وفرس ودوق، ووديق أيضا، وبها وداق. والوديقة: شدة الحر. وخلال جمع خلل؛ مثل الجبل والجبال، وهي فرجه ومخارج القطر منه. وقد تقدم في - البقرة-أن كعبا قال: إن السحاب غربال المطر؛ لو لا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو العالية {من خلله}على التوحيد. وتقول: كنت في خلال القوم؛أي وسطهم. {وينزل من السماء من جبال فيها من برد}قيل: خلق الله في السماء جبالا من برد، فهو ينزل منها بردا؛ وفيه إضمار، أي ينزل من جبال البرد بردا، فالمفعول محذوف. ونحو هذا قول الفراء؛ لأن التقدير عنده: من جبال برد؛ فالجبال عنده هي البرد. و{برد}في موضع خفض؛ ويجب أن يكون على قوله المعنى: من جبال برد فيها، بتنوين جبال. وقيل: إن الله تعالى خلق في السماء جبالا فيها برد؛ فيكون التقدير: وينزل من السماء من جبال فيها برد. و{من}صلة. وقيل: المعنى وينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض؛ {فمن}الأولى للغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض لأن البرد بعض الجبال، والثالثة لتبيين الجنس لأن جنس تلك الجبال من البرد. وقال الأخفش: إن {من}في {الجبال}و{برد}زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب؛ أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال. والله أعلم. {فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء}فيكون إصابته نقمة وصرفه نعمة. وقد مضى في -البقرة- و[الرعد] أن من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عوفي مما يكون في ذلك الرعد. {يكاد سنا برقه}أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب {يذهب بالأبصار}من شدة بريقه وضوئه. قال الشماخ: وقال امرؤ القيس: فالسنا - مقصور - ضوء البرق. والسنا أيضا نبت يتداوى به. والسناء من الرفعة ممدود. وكذلك قرأ طلحة بن مصرف {سناء}بالمد على المبالغة من شدة الضوء والصفاء؛ فأطلق عليه اسم الشرف. قال المبرد: السنا - مقصور - وهو اللمع؛ فإذا كان من الشرف والحسب فهو ممدود وأصلهما واحد وهو الالتماع. وقرأ طلحة بن مصرف {سناء برقه}قال أحمد بن يحيى: وهو جمع برقة. قال النحاس: البرقة المقدار من البرق، والبرقة المرة الواحدة. وقرأ الجحدري وابن القعقاع {يُذهب بالأبصار}بضم الياء وكسر الهاء؛ من الإذهاب، وتكون الباء في {بالأبصار}صلة زائدة. الباقون {يذهب بالأبصار}بفتح الياء والهاء، والباء للإلصاق. والبرق دليل على تكاثف السحاب، وبشير بقوة المطر، ومحذر من نزول الصواعق. قوله {يقلب الله الليل والنهار}قيل: تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الآخر. وقيل: تقليبهما نقصهما وزيادتهما. وقيل: هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى؛ وكذا الليل مرة بظلمة السحاب ومرة بضوء القمر؛ قاله النقاش. وقيل: تقليبهما باختلاف ما تقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر. {إن في ذلك}أي في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار، وأحوال المطر والصيف والشتاء {لعبرة}أي اعتبارا {لأولي الأبصار}أي لأهل البصائر من خلقي. {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } قوله {والله خلق كل دابة من ماء}قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {والله خالق كل}بالإضافة. الباقون {خلق}على الفعل. قيل: إن المعنيين في القراءتين صحيحان. أخبر الله عز وجل بخبرين، ولا ينبغي أن يقال في هذا: إحدى القراءتين أصح من الأخرى. وقد قيل: إن {خلق}لشيء مخصوص، وإنما يقال خالق على العموم؛ كما قال الله عز وجل قلت: ويدل على صحة هذا قوله {فمنهم من يمشي على بطنه}المشي على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره. وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى. والأربع لسائر الحيوان. وفي مصحف أبي {ومنهم من يمشي على أكثر{؛ فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان كالسرطان والخشاش؛ ولكنه قرآن لم يثبته إجماع؛ لكن قال النقاش: إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في خلقته، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها. قال ابن عطية: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان، وهي كلها تتحرك في تصرفه. وقال بعضهم: ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من أربع؛ إذ لم يقل ليس منها ما يمشي على أكثر من أربع. وقيل فيه إضمار: ومنهم من يمشي على أكثر من أربع؛ كما وقع في مصحف أبي. والله أعلم. و{دابة}تشمل من يعقل وما لا يعقل؛ فغلب من يعقل لما اجتمع مع من لا يعقل؛ لأنه المخاطب والمتعبد؛ ولذلك قال {فمنهم}. وقال {من يمشي}فأشار بالاختلاف إلى ثبوت الصانع؛ أي لو لا أن للجميع صانعا مختارا لما اختلفوا، بل كانوا من جنس واحد؛ وهو كقوله {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } قوله {ويقولون آمنا بالله وبالرسول}يعني المنافقين، يقولون بألسنتهم آمنا بالله وبالرسول من غير يقين ولا إخلاص. {وأطعنا}أي ويقولون {وأطعنا}وكذبوا. {ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين}. {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون } قال الطبري وغيره: إن رجلا من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافق مبطلا، فأبى من ذلك وقال: إن محمدا يحيف علينا فلنحكم كعب بن الأشرف فنزلت الآية فيه. وقيل: نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم عليا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه يبغضني؛ فنزلت الآية، ذكره الماوردي. وقال {ليحكم}ولم يقل ليحكما لأن المعني به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بدأ بذكر الله إعظاما لله واستفتاح كلام. قوله {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين}أي طائعين منقادين؛ لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحق. يقال: أذعن فلان لحكم فلان يذعن إذعانا. وقال النقاش}مذعنين}خاضعين، ومجاهد: مسرعين. الأخفش وابن الأعرابي: مقرين. {أفي قلوبهم مرض}شك وريب. {أم ارتابوا}أم حدث لهم شك في نبوته وعدله. {أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله}أي يجور في الحكم والظلم. وأتي بلفظ الاستفهام لأنه أشد في التوبيخ وأبلغ في الذم؛ كقوله جرير في المدح: {بل أولئك هم الظالمون}أي المعاندون الكافرون؛ لإعراضهم عن حكم الله تعالى. القضاء يكون للمسلمين إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم ولا حق لأهل الذمة فيه. وإذا كان بين ذميين فذلك إليهما. فإن جاءا قاضي الإسلام فإن شاء حكم وإن شاء أعرض؛ كما تقدم في المائدة هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال {أفي قلوبهم مرض}الآية. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق أو عداوة بين المدعي والمدعى عليه. { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } قوله {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله}أي إلى كتاب الله وحكم ورسوله. {أن يقولوا سمعنا وأطعنا}قال ابن عباس: أخبر بطاعة المهاجرين والأنصار، وإن كان ذلك فيما يكرهون؛ أي هذا قولهم، وهؤلاء لو كانوا مؤمنين لكانوا يقولون سمعنا وأطعنا. فالقول نصب على خبر كان، واسمها في قوله {أن يقولوا}نحو { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } قوله {ومن يطع الله ورسوله}فيما أمر به حكم. {ويخش الله ويتقيه}قرأ حفص {ويتقه}بإسكان القاف على نية الجزم؛ قال الشاعر: وكسرها الباقون، لأن جزمه بحذف آخر. وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر. واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والبستي عن أبي عمرو وحفص. وأشبع كسرة الهاء الباقون. {فأولئك هم الفائزون}ذكر أسلم أن عمر بينما هو قائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت لله. قال: هل لهذا سبب ؟ قال: نعم إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله فأسلمت. قال: ما هذه الآية؟ قال قوله {ومن يطع الله}في الفرائض {ورسوله}في السنن {ويخش الله}فيما مضى من عمره {ويتقه}فيما بقي من عمره}فأولئك هم الفائزون}والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم ) {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون } قوله {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}عاد إلى ذكر المنافقين، فإنه لما بين كراهتهم لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا ونسائنا وأموالنا فخرجنا، ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا؛ فنزلت هذه الآية. أي وأقسموا بالله أنهم يخرجون معك في المستأنف ويطيعون. {جهد أيمانهم}أي طاقة ما قدروا أن يحلفوا. وقال مقاتل: من حلف بالله فقد أجهد في اليمين. وقد مضى في - الأنعام- بيان هذا. و{جهد}منصوب على مذهب المصدر تقديره: إقساما بليغا. {قل لا تقسموا}وتم الكلام. {طاعة معروفة}أولى بكم من أيمانكم؛ أو ليكن منكم طاعة معروفة، وقول معروف بإخلاص القلب، ولا حاجة إلى اليمين. وقال مجاهد: المعنى قد عرفت طاعتكم وهي الكذب والتكذيب؛ أي المعروف منكم الكذب دون الإخلاص. {إن الله خبير بما تعملون}من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل. {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } قوله {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}بإخلاص الطاعة وترك النفاق. {فإن تولوا}أي فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين. ودل على هذا أن بعده {وعليكم}ولم يقل وعليهم. {فإنما عليه ما حمل}أي من تبليغ الرسالة. {وعليكم ما حملتم}أي من الطاعة له؛ عن ابن عباس وغيره. {وإن تطيعوه تهتدوا}جعل الاهتداء مقرونا بطاعته. {وما على الرسول إلا البلاغ المبين}أي التبليغ {المبين}. { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ قاله مالك. وقيل: إن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو، وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم؛ فنزلت الآية. وقال أبو العالية: قلت: هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم حتى يخصوا بها من عموم الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم. ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أحد وغيرها وخاصة الخندق، حتى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال قوله {ليستخلفنهم في الأرض}فيه قولان: أحدهما: يعني أرض مكة؛ لأن المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك فوعدوا كما وعدت بنو إسرائيل؛ قال معناه النقاش. الثاني: بلاد العرب والعجم. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ لأن أرض مكة محرمة على المهاجرين، { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون } تقدم؛ فأعاد الأمر بالعبادة تأكيدا. {لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير } قوله {لا تحسبن الذين كفروا}هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصرة. وقراءة العامة {تحسبن}بالتاء خطابا. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة {يحسبن}بالياء، بمعنى لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين. وهذا قول الزجاج. وقال الفراء وأبو علي: يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين الأرض. فـ {الذين}مفعول أول، و{معجزين}مفعول ثان. وعلى القول الأول {الذين كفروا}فاعل {أنفسهم}مفعول أول، وهو محذوف مراد {معجزين}مفعول ثان. قال النحاس: وما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة؛ فمنهم من يقول: هي لحن؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن. وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء: هو ضعيف؛ وأجازه على ضعفه، على أنه يحذف المفعول الأول، وقد بيناه. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة: يكون {الذين كفروا}في موضع نصب. قال: ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض. قلت: وهذا موافق لما قاله الفراء وأبو علي؛ لأن الفاعل هناك النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا القول الكافر. و{معجزين}معناه فائتين. وقد تقدم. {ومأواهم النار ولبئس المصير}أي المرجع. { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم } قال العلماء، هذه الآية خاصة والتي قبلها عامة؛ لأنه قال الأول: أنها منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير. الثاني: أنها ندب غير واجبة؛ قاله أبو قلابة، قال: إنما أمروا بهذا نظرا لهم. الثالث: عنى بها النساء؛ قاله أبو عبدالرحمن السلمي. الرابع: وقال ابن عمر: هي في الرجال دون النساء. الخامس: كان ذلك واجبا، إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد الوجوب حكاه المهدوي عن ابن عباس. السادس: أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء؛ وهو قول أكثر أهل العلم؛ منهم القاسم وجابر بن زيد والشعبي. وأضعفها قول السلمي لأن {الذين}لا يكون للنساء في كلام العرب، إنما يكون للنساء - اللاتي واللواتي - وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر، لأن {الذين}للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل، والكلام على ظاهره، غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم. وأما قول ابن عباس "فروى أبو داود عن عبيدالله بن أبي يزيد" سمع ابن عباس يقول: آية لم يؤمر بها أكثر الناس آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس {يأمر به}. و روى عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد، قول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم}. قال أبو داود: قرأ القعنبي إلى {عليم حكيم}قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد. قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير؛ فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها. و روى وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم}قال: ليست بمنسوخة. قلت: إن الناس لا يعملون بها؛ قال: الله عز وجل المستعان. قال بعض أهل العلم: إن الاستئذان ثلاثا مأخوذ من قوله {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات}قال يزيد: ثلاث دفعات. قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجميع. قال ابن عبدالبر: ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله {ثلاث مرات}أي في ثلاث أوقات. ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها {من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء}. أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها، يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري. فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار. ووقت القائلة وقت التجرد أيضا وهي الظهيرة، لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره. وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم؛ فالتكشف غالب في هذه الأوقات. يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه، فوجده نائما قد أغلق عليه الباب، فدق عليه الغلام الباب فناداه، ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن؛ ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخر ساجدا شكرا لله. وهي مكية. قوله {والذين لم يبلغوا الحلم منكم}أي الذين لم يحتلموا من أحراركم؛ قال مجاهد. وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم، على التقديم والتأخير، وأن الآية في الإماء. وقرأ الجمهور بضم اللام، وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة، وكان أبو عمرو يستحسنها. و{ثلاث مرات}نصب على الظرف؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، والظرفية في {ثلاث}بينة: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن صلاة العشاء. وقد مضى معناه. ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت. {ثلاث عورات لكم}قرأ جمهور السبعة {ثلاث عورات}برفع {ثلاث}. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {ثلاث}بالنصب على البدل من الظرف في قوله {ثلاث مرات}. قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. وقال الفراء: الرفع أحب إلي. قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء، والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال نصا بالابتداء. قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة؛ إلا أنه قرأ بالنصب، والنصب فيه قولان: أحدهما: أنه مردود على قوله {ثلاث مرات}؛ ولهذا استبعده الفراء. وقال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. و{عورات}جمع عورة، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات بفتح العين كجفنة وجفنات، ونحو ذلك، وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات؛ لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك؛ فأما قول الشاعر: فشاذ. قوله {ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن}أي في الدخول من غير أن يستأذنوا وإن كنتم متبذلين. {طوافون}بمعنى هم طوافون. قال الفراء: كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم. وأجاز الفراء نصب {طوافين}لأنه نكرة، والمضمر في {عليكم}معرفة. ولا يجيز البصريون أن يكون حالا من المضمرين اللذين في {عليكم}وفي {بعضكم}لاختلاف العاملين. ولا يجوز مررت يزيد ونزلت على عمرو العاقلين، على النعت لهما. فمعنى {طوافون عليكم}أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم؛ قوله {ومن بعد صلاة العشاء}يريد العتمة. فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء وقد قيل: إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة، إنما كان لئلا يعدل بها عما سماها الله تعالى في كتابه إذقال {ومن بعد صلاة العشاء}؛ فكأنه نهيُ إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز. ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيها لهذه العبادة الشريفة الدينية عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية، وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة؛ ويشهد لهذا قوله: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم } قرأ الحسن {الحلم}فحذف الضمة لثقلها. والمعنى: أن الأطفال أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة؛ وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا. ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت. وهذا بيان من الله عز وجل لأحكامه وإيضاح حلاله وحرامه، وقال {فليستأذنوا}ولم يقل فليستأذنوكم. وقال في الأولى {ليستأذنكم}لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين. وقال ابن جريج: قلت لعطاء {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا}قال: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحرارا كانوا أو عبيدا. وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي ما حد الطفل الذي يستأذن؟ قال: أربع سنين، قال لا يدخل على امرأة حتى يستأذن. وقال الزهري: أي يستأذن الرجل على أمه وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية. { والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم } قوله {والقواعد من النساء}القواعد واحدتها قاعد، بلا هاء؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: امرأة حامل؛ ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل. قال الشاعر: وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها، بالهاء. والقواعد أيضا: إساس البيت واحدة قاعدة، بالهاء. القواعد: العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد والمحيض؛ هذا قول أكثر العلماء. قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها. وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد؛ وليس ذلك بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، قاله المهدوي. قوله {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن}إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن؛ إذ لا يذهب للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهم كلفة التحفظ المتعب لهن. قرأ ابن مسعود وأبي وابن عباس {أن يضعن من ثيابهن}بزيادة {من}قال ابن عباس: وهو الجلباب. وروي عن ابن مسعود أيضا {من جلابيبهن}والعرب تقول: امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خمارها. وقال قوم: الكبيرة التي أيست من النكاح، لو بدا شعرها فلا بأس؛ فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار. والصحيح أنها كالشابة في التستر؛ إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما. قوله {غير متبرجات بزينة}أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن؛ فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق. والتبرج: التكشف والظهور للعيون؛ ومنه: بروج مشيدة. وبروج السماء والأسوار؛ أي لا حائل دونها يسترها. وقيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء، قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكنّ الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكنّ أن يروا منكن محرما. وقال عطاء: هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب. وعلى هذا {غير متبرجات}غير خارجات من بيوتهن. وعلى هذا يلزم أن يقال: إذا كانت في بيتها فلا بدلها من جلبان فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي. ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن، واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير. وقرأ ابن مسعود {وأن يتعففن}بغير سين. ثم قيل: من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها. قلت: هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى. والثاني: أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال الله تعالى فيه{ولباس التقوى ذلك خير}. وأنشدوا: وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا قلت: هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات؛ فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهرا وباطنا، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك. ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون } قوله {ليس على الأعمى حرج}اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على أقوال ثمانية. أقربها - هل هي منسوخة أو ناسخة أو محكمة؛ فهذه ثلاثة أقوال: الأول: أنها منسوخة من قوله {ولا على أنفسكم}إلى آخر الآية؛ قاله عبدالرحمن بن زيد، قال: هذا شيء انقطع، كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق، وكانت الستور مرخاة، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد؛ فسوغ الله عز وجل أن يأكل منه، ثم صارت الأغلاق على البيوت فلا يحل لأحد أن يفتحها، فذهب هذا وانقطع. الثاني: أنها ناسخة؛ قاله جماعة. "روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما أنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}قال المسلمون: إن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن الطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك؛ فأنزل الله عز وجل {ليس على الأعمى حرج - إلى - أو ما ملكتم مفاتحه}. قال: هو الرجل يوكل الرجل بضيعته. قلت: علي بن أبي طلحة هذا هو مولى بني هاشم سكن الشام، يكنى أبا الحسن ويقال أبا محمد، اسم أبيه أبي طلحة سالم، تكلم في تفسيره؛ فقيل: إنه لم ير ابن عباس، والله أعلم. الثالث: أنها محكمة؛ قاله جماعة من أهل العلم ممن يقتدي بقولهم؛ منهم سعيد بن المسيب وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود. و"روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون: إذا احتجتم فكلوا؛ فكانوا يقولون إنما أحلوه لنا عن غير طيب نفس؛ فأنزل الله عز وجل {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم}إلى آخر الآية. قال النحاس: يوعبون أي يخرجون بأجمعهم في المغازي؛ يقال: أوعب بنو فلان لبني فلان إذا جاؤوهم بأجمعهم. وقال ابن السكيت: يقال أوعب بنو فلان جلاء؛ فلم يبق ببلدهم منهم أحد. وجاء الفرس بركض وعيب؛ أي بأقصى ما عنده. وفي الحديث: قلت: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، فأما ما قال الناس في الحرج: قال ابن زيد: هو الحرج في الغزو؛ أي لا حرج عليهم في تأخرهم. وقوله {ولا على أنفسكم}الآية، معنى مقطوع من الأول. وقالت فرقة: الآية كلها في معنى المطاعم. قالت: وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار؛ فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته؛ وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤذنة. وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجا من غير أهل الأعذار، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء في الأكل، لعدم الرؤية في الأعمى، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج، ولضعف المريض؛ فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم. وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي: إن أهل الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم؛ فنزلت الآية مبيحة لهم. وقيل: كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب به إلى بيوت قرابته؛ فتحرج أهل الأعذار من ذلك؛ فنزلت الآية. قوله {ولا على أنفسكم}هذا ابتداء كلام أي ولا عليكم أيها الناس. ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام. وذكر بيوت القربات وسقط منها بيوت الأبناء؛ فقال المسفرون: ذلك لأنها داخلة في قوله {في بيوتكم}لأن بيت ابن الرجل بيته وفي الخبر (أنت ومالك لأبيك). لأنه ذكر الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد. قال النحاس: وعارض بعضهم هذا القول فقال: هذا تحكم على كتاب الله تعالى؛ بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مخالفا لهؤلاء، وليس الاحتجاج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله {أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم}قال بعض العلماء: هذا إذا أذنوا له في ذلك. وقال آخرون: أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن يأكل؛ لأن القرابة التي بينهم هي إذن منهم. وذلك لأن في تلك القرابة عطفا تسمح النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا. ابن العربي: أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولا، فإذا كان محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن غير محرز عنهم إلا بإذن منهم. قوله {أو ما ملكتم مفاتحه}يعني مما اختزنتم وصار في قبضتكم. وعظم ذلك ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه؛ وذلك هو تأويل الضحاك وقتادة ومجاهد. وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء. قال ابن عباس: عني وكيل الرجل على ضيعته، وخازنه على ماله؛ فيجوز له أن يأكل مما قيم عليه. وذكر معمر عن قتادة عن عكرمة قال: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير. ابن العربي: وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعا؛ وهذا إذا لم تكن له أجرة، فأما إذا كانت له أجرة على الخزن حرم عليه الأكل. وقرأ سعيد بن جبير {ملكتم}بضم الميم وكسر اللام وشدها. وقرأ أيضا {مفاتيحه}بياء بين التاء والحاء، جمع مفتاح؛ وقد مضى في - الأنعام -. وقرأ قتادة {مفتاحه}على الإفراد. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. قوله {أو صديقكم}الصديق بمعنى الجمع، وكذلك العدو؛ قال الله والصديق من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك. ثم قيل: إن هذا منسوخ بقوله قرن الله عز وجل في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة، لأن قرب المودة لصيق. قال ابن عباس في كتاب النقاش: الصديق أو كد من القرابة؛ ألا ترى استغاثة الجهنميين قلت: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه. وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في - النساء -. وفي المثل - أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك - قال: أخي إذا صديقي. قوله {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا}قيل: إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حي من بني كنانة، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله. ومنه قول بعض الشعراء: قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثه عندهم عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه؛ فنزلت الآية مبينة سنة الأكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد. {جميعا}نصب على الحال. و{أشتاتا}جمع شت والشت المصدر بمعنى التفرق يقال: شت القوم أي تفرقوا. وقد ترجم البخاري في صحيحه باب (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) الآية. و - النهد والاجتماع - . ومقصوده فيما قاله علماؤنا في هذا الباب: إباحة الأكل جميعا وإن اختلفت أحوالهم في الأكل. وقد سوغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فصارت تلك سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم وفي الإملاق في السفر. وما ملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك. والنهد: ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر في النفقة ينفقونه بينهم؛ وقد تناهدوا؛ عن صاحب العين. وقال ابن دريد: يقال من ذلك: تناهد القوم الشيء بينهم. الهروي: وفي حديث الحسن قوله {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون}اختلف المتأولون في أي البيوت أراد؛ فقال إبراهيم النخعي والحسن: أراد المساجد؛ والمعنى: سلموا على من فيها من ضيفكم. فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله. وقيل: يقول السلام عليكم؛ يريد الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وذكر عبدالرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم}الآية، قال: إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقيل: المراد بالبيوت البيوت المسكونة؛ أي فسلموا على أنفسكم. قال جابر بن عبدالله وابن عباس أيضا وعطاء بن أبي رباح. وقالوا: يدخل في ذلك البيوت غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص؛ وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه، فإذا دخل بيتا لغيره أستأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا لنفسه سلم كما ورد في الخبر، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ قال ابن عمر. وهذا إذا كان فارغا، فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل: السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ. قال ابن العربي: والذي أختاره إذا كان البيت فارغا ألا يلزم السلام، فإنه إن كان المقصود الملائكة فالملائكة لا تفارق العبد بحال، أما إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله بأن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وقد تقدم في سورة [الكهف]. وقال القشيري في قوله {إذا دخلتم بيوتا}: والأوجه أن يقال إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال السلام على من اتبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وذكر ابن خويز منداد قال: كتب إلى أبو العباس الأصم قال حدثنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا جعفر بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: هذا الحديث ثبت معناه مرفوع من حديث جابر، "خرجه مسلم." قوله {تحية}مصدر؛ لأن قوله {فسلموا}معناه فحيوا. وصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه. ووصفها أيضا بالطيب لأن سامعها يستطيبها. والكاف من قوله {كذلك}كاف تشبيه. و{ذلك}إشارة إلى هذه السنن؛ أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم.
|